فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أؤنبئكم‏}‏ أي أخبركم ‏{‏بخير من ذلكم‏}‏ يعني الذي ذكر من متاع الدنيا ‏{‏للذين اتقوا‏}‏ قال ابن عباس في رواية عنه يريد المهاجرين والأنصار‏.‏ أراد أن يعرفهم ويشوقهم إلى الآخرة قال العلماء‏:‏ ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك ‏{‏عند ربهم‏}‏ معناه أن الله أخبر أن ما عنده خير مما كان في الدنيا وإن كان محبوباً فحثهم على ترك ما يحبون لما يرجون ثم فسر لك الخير فقال تعالى‏:‏ ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله‏}‏‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة فيقولون‏:‏ لبيك ربنا وسعديك الخير كله في يديك، فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك‏:‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ وأي شيء أفضل من ذلك فيقول، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً وقيل‏:‏ إن العبد إذا علم أن الله تعالى قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه» ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ يعني أن الله تعالى عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كلاًّ على عمله فيثبت ويعاقب على قدر الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى بصير بالذين اتقوا فلذلك أعدلهم الجنات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يقولون ربنا إننا آمنا‏}‏ أي صدقنا ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي استر علينا وتجاوز عنا ‏{‏وقنا عذاب النار‏}‏‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏ يعني على أداء الواجبات وعن المحرمات والمنهيات، وفي البأساء والضراء وحين البأس‏.‏ وقيل‏:‏ الصابرين على دينهم وما أصابهم ‏{‏والصادقين‏}‏ يعني في إيمانهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم قوم صدقت نياتهم واستقامت ألسنتهم وقلوبهم في السر والعلانية والصدق يكون في القول والأفعال والنية، فأما صدق الفعل فهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل هو عدم الانصراف عنه قبل إتمامه، والصدق في النية العزم على الفعل حتى يبلغه‏.‏ ‏{‏والقانتين‏}‏ يعني المطيعين لله وقيل لهم المصلون، وهو عبارة عن دوام الطاعة والمواظبة عليها ‏{‏والمنفقين‏}‏ يعني أموالهم في طاعة الله تعالى، ويدخل فيه نفقة الرجل على نفسه وعلى أهله وأقاربه وصلة رحمه، والزكاة والنفقة في جميع القربات ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏ يعني المصلين بالسحر وهو الوقت بعد ظلمة الليل إلى طلوع الفجر، وقيل كانوا يصلون بالليل حتى إذا كان وقت السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار فكان هذا دأبهم في ليلهم‏.‏ قال نافع‏:‏ كان ابن عمر يحيي الليل ثم يقول‏:‏ يا نافع أسحرنا‏؟‏ فأقول‏:‏ لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر ويدعو حتى يصلي الصبح‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال‏:‏ ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» وفي لفظ مسلم فيقول‏:‏ أنا الملك أما الملك من ذا الذي يدعوني الحديث وله في رواية أخرى فيقول‏:‏ هل من سائل‏؟‏ فيعطى هل من داع فيستجاب له‏؟‏ هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الصبح «‏؟‏ هذا الحديث من أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان معروفان مذهب السلف الإيمان به وإجراءه على ظاهره ونفي الكيفية عنه، والمذهب الثاني هو مذهب من يتأول أحاديث الصفات‏.‏ قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ إنما ينكر هذا الحديث من يقيس الأمور على ما يشاهده من النزول الذي هو تدل على من أعلى إلى أسفل، وانتقال من فوق إلى تحت وهذا صفة الأجسام، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه، وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏.‏ وقيل في قوله‏:‏ والمستغفرين بالأسحار وصف الله تعالى هؤلاء بما وصف ثم بين أنهم مع ذلك لشدة خوفهم ووجلهم أنهم يستغفرون بالأسحار‏.‏ وروي أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بني لا تكن أعجز من الديك فإنه يصوت بالأسحار وانت نائم الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام والمعنى‏:‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ يعني بيان نعته وصفته في كتبهم‏.‏ وقال الربيع‏:‏ إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل وأودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة والاختلاف، بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب وهم من أبناء الملوك السبعين حتى أهرقوا الدماء وقع الشر والاختلاف، وذلك بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة من الأحكام ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ أي طلباً بينهم للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت من نصارى نجران ومعناه وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني الإنجيل واختلافهم كان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ادعوا فيه من الإلهية إلا من بعد ما جاءهم العلم‏.‏ يعني بأن الله تعالى واحد أحد وأن عيسى عبده ورسوله بغياً بينهم يعني المعاداة والمخالفة‏.‏ ‏{‏ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏ فيه وعيد وتهديد لمن أصر على الكفر من اليهود والنصارى الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك‏}‏ أي خاصموك يا محمد في الدين، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب والدين هو الإسلام ونحن عليه فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بأنه اتبع أمر الله الذي هم يقرون به بقوله‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ أي انقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف جوارح الإنسان الظاهرة إذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه وقيل‏:‏ أراد بالوجه العمل أي خلصت عملي لله وقصدت بعبادتي الله ‏{‏ومن اتبعن‏}‏ يعني ومن أسلم كما أسلمت أنا ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏والأميين‏}‏ يعني مشركي العرب ‏{‏أأسلمتم‏}‏ لفظه استفهام ومعناه أمر أي أسلموا ‏{‏فإن اسلموا فقد اهتدوا‏}‏ يعني إلى الفوز والنجاة في الآخرة، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أهل الكتاب قالوا‏:‏ قد أسلمنا فقال لليهود‏:‏ أتشهدون أن موسى كليم الله وعبده ورسوله فقالوا‏:‏ معاذ الله وقال للنصارى‏:‏ أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله فقالوا‏:‏ معاذ الله أن يكون عيسى عبداً قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تولوا‏}‏ أي أعرضوا ‏{‏فإنّما عليك البلاغ‏}‏ يعني تبليغ الرسالة‏.‏ وليس عليك هدايتهم واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في الآية فذهب طائفة إلى أنها محكمة، والمراد بها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحرص على إيمانهم ويتألم لتركهم الإجابة، وذهب طائفة إلى أنها منسوخة بآية السيف لأن المراد بها الاقتصار على التبليغ وهذا منسوخ بآية السيف ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ يعني أنه تعالى عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله‏}‏ يعني يجحدون القرآن وينكرونه وهم اليهود ‏{‏ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس‏}‏ كان أنبياء بني إسرائيل يأتيهم الوحي ولم يكن يأتيهم كتاب لأنهم كانوا ملتزمين بأحكام التوراة، فكانوا يذكرون قومهم فيقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم وصدقهم فيذكرونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فيقتلونهم أيضاً، فهم الذين يأمرون بالقسط يعني بالعدل من الناس‏.‏ روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي عبيدة بن الجراح قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة‏؟‏ «قال رجل‏:‏ قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس‏}‏ إلى أن انتهى إلى قوله ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ ثم قال على فراشك» وقيل‏:‏ هم الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة فعلى هذا القول إنما سميت الصلاة استغفاراً لأنهم طبلوا بفعلها المغفرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏}‏ قيل سبب نزول الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصر المدينة قال أحدهما لصاحبه‏:‏ ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة فقالا له‏:‏ أنت محمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قالا وأنت أحمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالا فإنا نسألك عن شيء‏:‏ فإن أنت أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال‏:‏ اسألاني قالا‏:‏ فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الحبران‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام فقوله تعالى‏:‏ شهد الله يعني بيّن الله وأظهر لأن معنى الشهادة تبيين وإظهار‏.‏ وقيل‏:‏ معنى شهد الله حكم الله وقضى‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أعلم الله أنه لا إله إلاّ هو وذلك بيان الدلائل لما أمكن التوصل إلى معرفة الوحدانية، فهو تعالى أرشد عباده إلى معرفة توحيده بما بين من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته سئل بعض الأعراب ما الدليل على وجود الصانع‏؟‏ فقال‏:‏ إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على الميسر فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على وجود الصانع الخبير‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه بنفسه قبل أن خلق الخلق كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر، فقال تعالى‏:‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو

‏{‏والملائكة‏}‏ أي وشهد الملائكة فمعنى شهادة الله تعالى الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والاعتراف بأنه لا إله إلاّ هو، ولما كان واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة حسن إطلاق لفظ الشهادة عليهما ‏{‏وأولو العلم‏}‏ أي وشهد أولوا العلم بأنه لا إله إلا هو، واختلفوا في أولي العلم فقيل‏:‏ هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق بالله تعالى وقيل‏:‏ هم علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وقيل‏:‏ هم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبدالله بن سلام وأصحابه، وقيل‏:‏ هم علماء جميع المؤمنين ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ أي بالعدل نصب على الحال والقطع أو المدح ومعناه أنه تعالى قائم بتدبير خلقه كما يقال‏:‏ فلان قائم بأمر فلان يعني أنه مدبر له ومتعهد له ومتعهد لأسبابه، وفلان قائم بحق فلان، أي أنه مجاز له فالله مدبر أمر خلقه وقائم بارزاقهم ومجاز لهم بأعمالهم ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ إنما كرره للتأكيد، وقيل إن الأول وصف وتوحيد والثاني رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلاّ هو‏.‏ وقيل فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه فيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات ‏{‏العزيز‏}‏ أي الغالب الذي لا يقهر ‏{‏الحكيم‏}‏ يعني في جميع أفعاله ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ يعني أن الدين المرضى عند الله هو الإسلام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ وفيه رد على اليهود والنصارى وذلك لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية رد الله عليهم ذلك فقال‏:‏ إن الدين عند الله الإسلام‏.‏ وقرئ أن الدين بفتح الهمزة رداً على أن الأولى والمعنى شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وأصل الدين في اللغة الجزاء‏.‏ يقال كما تدين تدان ثم صار اسماً للملة والشريعة، ومعناه الانقياد للطاعة والشريعة، قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم وهو والاستسلام والانقياد والدخول في الطاعة‏.‏ وروى البغوي بسند الثعلبي عن غالب القطان قال‏:‏ أتيت الكوفة في تجارةٍ فنزلت قريباً من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كان ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم‏}‏ قال الأعمش‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً‏.‏ قلت‏:‏ سمع فيها شيئاً فصليت الصبح معه وودعته ثم قلت له‏:‏ إني سمعتك ترددهما فما بلغك فيها‏؟‏ قال‏:‏ والله لا أحدثك فيها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت‏:‏ يا أبا محمد قد مضت السنة فقال‏:‏ حدثني أبو وائل عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يجاء بصاحبها يوم القيامة‏.‏

فيقول الله عز وجل‏:‏ إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم «‏{‏فبشرهم بعذابٍ أليم‏}‏ إنما دخلت الفاء في قوله فبشرهم مع أنه خبر إن لأنه في معنى الجزاء والتقدير من كفر فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، وهذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار الكفار بالعذاب قام مقام بشرى المحسنين بالثواب، وفي هذه الاية توبيخ لليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان أسلافهم الذين قتلوا الأنبياء لأنهم رضوا بفعلهم ‏{‏أولئك الذين حبطت‏}‏ أي بطلت ‏{‏أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ وبطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا ولا يجازى عليه في الآخرة ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ يعني يمنعونهم من العذاب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ أنزلت في اليهود ‏{‏يدعون إلى كتاب الله‏}‏ يعني القرآن، وذلك أن اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله جعل القرآن حكماً فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى فأعرضوا عنه‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ على ملة إبراهيم‏.‏ قال‏:‏ إن إبراهيم كان يهودياً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» هلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم «فأبينا عليه فأنزل الله الآية‏.‏ فعلى هذا القول يكون المراد بكتاب الله التوراة‏.‏ وروي عنه أيضاً أن رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم‏.‏ فقال النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو‏:‏ جرت عليهما يا محمد وليس عليهما الرجم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» بيني وبينكم التوراة «فقالوا‏:‏ قد أنصفت‏.‏

فقال من أعلمكم بالتوراة‏؟‏ فقالوا رجل أعور يقال له عبدالله بن صوريا يسكن فدك فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبريل قد وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أأنت ابن صوريا‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أنت أعلم اليهود بالتوراة‏.‏ قال‏:‏ كذلك يزعمون» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة وقال له‏:‏ اقرأ فقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها وقرأ ما بعدها فقال عبدالله بن سلام‏:‏ يا رسول الله قد جاوزها ثم قام ورفع كفه عنها وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود وفيها‏:‏ أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهودية فرجما فغضبت اليهود لذلك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ يعني علمهم الذي علموه من التوراة يدعون إلى كتاب الله يعني القرآن أو التوراة على اختلاف الروايتين ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ أي ليقضي بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز ‏{‏ثم يتولى فريق منهم‏}‏ يعني الرؤساء والعلماء ‏{‏وهم معرضون‏}‏ يعني عن الحق وقيل الذين تولوا هم العلماء، والذين أعرضوا هم الأتباع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك بأنهم‏}‏ يعني التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم ‏{‏قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}‏ تقدم تفسيره في سورة البقرة ‏{‏وغرّهم‏}‏ أي وأطمعهم ‏{‏في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي يحلفون ويكذبون قيل‏:‏ هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل‏:‏ هو قولهم‏:‏ لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودات وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل ‏{‏فكيف إذا جمعناهم‏}‏ أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ‏{‏ليوم‏}‏ أي في يوم ‏{‏لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت‏}‏ أي لا شك فيه أنه كائن وواقع وهو يوم القيامة، وفيه تهديد لهم واستعظام لما أعد لهم في ذلك اليوم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم فيه وإن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وطمع فيما لا يكون ولا يحصل لهم‏.‏ قيل‏:‏ إن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود تفضحهم على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بها إلى النار ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي لا ينقص من حسناتهم إن كانت لهم حسنة ولا يزداد على سيئاتهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل اللّهم مالك الملك‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود‏:‏ هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الاية‏.‏ وقيل‏:‏ ان اليهود قالوا‏:‏ والله لا نطيع رجلاً ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الاية ‏{‏قل اللّهم‏}‏ معناه يا الله لما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره‏.‏ وقيل‏:‏ إن الميم فيه معنى آخر وهو يا الله أمنا بخير أي اقصدنا مالك الملك أي مالك العباد وما ملكوا‏.‏ وقيل‏:‏ مالك السموات والأرض، وقيل معناه بيده الملك يؤتيه من يشاء وقيل‏:‏ معناه مالك الملوك ومالك الملك ووارثهم يوم لا يدعي الملك أحد غيره‏.‏ وفي بعض كتب الله المنزلة أنا الله ملك الملوك ومالك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ الملك هو القدرة والمالك هو القادر‏.‏ والمعنى أنه تعالى قادر على كل شيء، وملك على كل مالك، ومملوك وقادر ومقدور‏.‏ وقيل‏:‏ معناه مالك الملك أي جنس الملك يتصرف فيه كيف يشاء ‏{‏تؤتي الملك من تشاء‏}‏ يعني النبوة لأنها أعظم مراتب الملك، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم له الأمر على بواطن الخلق وظواهرهم، والملك ليس له الأمر إلاّ على ظواهر بعض الخلق وهو من يطيعه منهم وطاعة النبي واجبه على الكافة ‏{‏وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏ يعني بذلك نزع النبوة من بني إسرائيل وإيتاءها محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه لا نبي بعده ولم يشركه في نبوته ورسالته أحد، وقيل‏:‏ تؤتي الملك من تشاء يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وتنزع اللمك ممن تشاء، يعني من أبي جهل وصناديد قريش وقيل تؤتي الملك من تشاء يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس والروم‏.‏

وقيل‏:‏ تؤتي الملك من تشاء يعني آدم وذريته وتنزع الملك ممن تشاء يعني إبليس وجنوده الذين كانوا في الأرض قبل آدم‏.‏ ‏{‏وتعز من تشاء‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ‏{‏وتذل من تشاء‏}‏ يعني اليهود بأخذ الجزية منهم ونزع النبوة عنهم، وقيل‏:‏ تعز المهاجرين والأنصار، وتذل فارس والروم، وقيل‏:‏ تعز من تشاء يعني محمداً وأصحابه دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء يعني أبا جهل وأضرابه حين قتلوا وألقوا في قليب بدر يوم بدر، وقيل‏:‏ تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل‏:‏ تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر، وقيل‏:‏ تعز من تشاء بالقناعة والرضا، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ‏{‏بيدك الخير‏}‏ يعني النصر والغنيمة‏.‏ وقيل‏:‏ الألف واللام تفيد العموم والمعنى بيدك كل الخيرات‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال بيد الخير دون الشر‏.‏ قلت‏:‏ لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله تعالى إلى عباده المؤمنين وهو الذي أنكرته اليهود والمنافقون فقال‏:‏ بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله بيدك الخير لا ينافي أن يكون بيد غيره، فيكون المعنى بيدك الخير وبيدك ما سواه إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه المنتفع به والمرغوب فيه‏.‏ ‏{‏إنّك على كل شيء قدير‏}‏ يعني من إيتاء الملك من تشاء، وإعزازاً من تشاء وإذلال من تشاء

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تولج اللّيل في النهار‏}‏ الآية‏.‏ لما ذكر الله تعالى أنه مالك الملك أردفه بذكر قدرته الباهرة في حال الليل والنهار، وفي المعاقبة بينهما وحال إخراج الحي من الميت ثم عطف عليه أنه يرزق من يشاء بغير حساب، وفي ذلك دلالة على أن قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة لذوي الأفهام والعقول، فهو قادر أن ينزع الملك من فارس والروم واليهود ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏ يعني تدخل الليل في النهار وهو أن تجعل الليل قصيراً وما نقص منه زائداً في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل، ‏{‏وتولج النهار في الليل‏}‏ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره، وقيل‏:‏ المراد أنه تعالى يأتي بسواد الليل عقيب ضوء النهار، ويأتي بضوء النهار بعد ظلمة الليل والقول الأول أصح وأقرب إلى معنى الآية لأنه إذا نقص الليل كان ذلك القدر زيادة في النهار وبالعكس وهو معنى الولوج‏.‏ ‏{‏وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي‏}‏ وهو أنه تعالى يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الإنسان ويخرج الفرخ وهو حي من البيضة وهي ميتة وبالعكس، وكذلك سائر الحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ يخرج النبات الغض الأخضر من الحب اليابس، ويخرج النخلة من النواة وبالعكس‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أنه تعالى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن لأن المؤمن حي الفؤاد، والكافر ميته ‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏ يعني من غير تضييق ولا تقتير، بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفرٍ من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر‏:‏ اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودة لكفار مكة‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عبدالله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون المشركون واليهود ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الاية ونهى المؤمنين عن مثل ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبادة بن الصامت كان له خلفاء من اليهود فقال يوم الأحزاب‏:‏ يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء‏}‏ يعني أنصاراً وأعواناً من دون المؤمنين يعني من غير المؤمنين، والمعنى لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن نهى الله المؤمنين أن يوالوا الكفار أو يلاطفوهم لقرابة بينهم أو محبة أو معاشرة، والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ يعني موالاة الكفار من نقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين أو يودهم ويحبهم ‏{‏فليس من الله في شيء‏}‏ أي فليس من دين الله في شيء‏.‏ وقيل‏:‏ معناه فليس من ولاية الله في شيء وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ اي إلاّ أن تخافوا منهم مخافة‏.‏ ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلاّ أن تخافوا منهم مخافة‏.‏ ومعنى الاية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين ومداهنتهم ومباطنتهم إلاّ أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفاراً فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ثم هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم، وأنكر قوم التقية اليوم قالوا‏:‏ إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم‏.‏ قال يحيى البكاء‏:‏ قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج‏:‏ إن الحسن يقول‏:‏ التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان فقال سعيد‏:‏ ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ أي ويخوفكم الله أن تعصوه بان ترتكبوا المنهي أو تخالفوا المأمور به أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ يعني أن الله يحذركم عقابه إذا صرتم إليه في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل إن تخفوا ما في صدوركم‏}‏ يعني ما في قلوبكم من موالاة الكفار ومودتهم وإنما ذكر الصدر لأنه وعاء القلب ‏{‏أو تبدوه‏}‏ يعني تبدوا مودة الكفار قولاً وفعلاً وقيل معناه إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبدوه أي تظهروه بالحرب والمقاتلة له ‏{‏يعلمه الله‏}‏ أي يحفظه عليكم ويجازيكم به، ‏{‏ويعلم ما في السموات والأرض‏}‏ يعني أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض فكيف يخفى عليه حالكم وموالاتكم الكفار وميلكم إليهم بقلوبكم ‏{‏والله على كل شيء قدير، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً‏}‏ يعني تجد كل نفس جزاء ما عملت محضراً ما عملت محضراً يوم القيامة لم ينقص ولم يبخس منه شيء، ‏{‏وما عملت من سوء‏}‏ أي تجد ما عملت من الخير محضراً فتسر به وما عملت من سوء ‏{‏تود‏}‏ أي تتمنى ‏{‏لو أن بينها وبينه‏}‏ أي وبين ما عملت من السوء ‏{‏أمداً بعيداً‏}‏ أي مكاناً بعيداً قيل‏:‏ كما بين المشرق والمغرب والأمد الأجل والغاية، وقيل معناه تود أنها لم تعمله ويكون بينها وبينه أمد بعيد ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ إنما كرره لتأكيد الوعيد ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ قيل‏:‏ معناه أنه رؤوف بهم حيث حذرهم نفسه وعرفهم كمال قدرته وعلمه، وأنه يمهل ولا يهمل‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة ولتدارك العمل الصالح‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تعالى لما قال‏:‏ ويحذركم الله نفسه وهو وعيد أتبعه بقوله والله رؤوف بالعباد، وهو وعد ليعلم المؤمن أن رحمته ووعده غلبت وعيده وسخطه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏}‏ نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه فنزلت هذه الآية، فعرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يقبلوها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانهم الشنوف وهم يسجدون لها فقال‏:‏ يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل فقالت قريش‏:‏ إنما نعبدها حباً لله لتقربنا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن نصارى نجران قالوا‏:‏ إنما نقول هذا القول في عيسى حباً لله وتعظيماً له فأنزل الله ‏{‏قل يا محمد إن كنتم تحبون الله‏}‏ فيما تزعمون فاتبعوني يحببكم الله لأنه قد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة فوجب على كافة الخلق متابعته‏.‏ والمعنى قل‏:‏ إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره مطيعين له فاتبعوني، فإن اتباعي من محبة الله تعالى وطاعته‏.‏ وقال العلماء‏:‏ إن محبة العبد لله عبارة عن إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد ثناؤه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم ذنوبكم‏}‏ يعني أن من غفر له فقد أزال عنه العذاب ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ يعني أنه تعالى يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، ولما نزلت هذه الآية قال عبدالله بن أبي سلول رأس المنافقين لأصحابه‏:‏ إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏}‏ يعني أن طاعة الله متعلقة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن طاعته لا تتم مع عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ كل أمر أو نهي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى ذلك في الفريضة واللزوم مجرى ما أمر الله به في كتابه أو نهى عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فإن طاعتكم لمحمد صلى الله عليه وسلم طاعتكم لي، فأمّا أن تطيعوني وتعصوا محمداً فلن أقبل منكم‏.‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم‏.‏ ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل أمتي يدخلون الجنة إلاّ من أبى قالوا‏:‏ ومن يأبى‏؟‏ قال‏:‏ من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» ‏(‏ق‏)‏ عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم نوحاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قالت اليهود‏:‏ نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله هذه الآية‏.‏ والمعنى أن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإسلام‏.‏ ومعنى اصطفى اختار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء آدم هو أبو البشر عليه السلام ونوحاً هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام‏.‏ وحكى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه على نفسه ‏{‏وآل إبراهيم‏}‏ قيل‏:‏ آراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه، وقيل آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب وذلك أن الله تعالى جعل إبراهيم أصلاً لشعبتين فجعل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أصلاً للعرب ومحمد صلى الله عليه وسلم منهم فهو داخل في هذا الاصطفاء، وجعل إسحاق أصلاً لبني إسرائيل، وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم جمع له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بآل إبراهيم من كان على دينه ‏{‏وآل عمران‏}‏ واختلفوا في عمران هذا فقيل‏:‏ هو عمران بن هو يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وهو والد موسى وهارون فيكون آل عمران موسى وهارون أو نفسه، وقيل‏:‏ هو عمران بن آشيم بن آمون وقيل‏:‏ ابن ماتان وهو من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وعمران هذا هو والد مريم وابنها عيسى فعلى هذا يكون المراد بآل عمران مريم وابنها عيسى عليه السلام، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم ‏{‏على العالمين‏}‏ أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم من النبوة والرسالة ‏{‏ذرية‏}‏ أي اصطفى ذرية وأصلها من ذرأ بمعنى خلق وقيل‏:‏ من الذر لأن الله تعالى استخرجهم من ظهر آدم كالذر وإنما سمي الآباء والأبناء ذرية لآن الله خلق بعضهم من بعض، فالأبناء من ذرية الآباء والآباء من ذرية آدم وهو ممن ذرأه الله تعالى أي خلقه ‏{‏بعضها من بعض‏}‏ أي بعضها من ولد بعض وقيل‏:‏ بعضها من بعض في التناصر والتعاضد وقيل‏:‏ بعضها على دين بعض ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ يعني أن الله تعالى سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم وإنما يصطفى لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولاً وفعلاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏}‏ هي حنة بنت فاقوذا أم مريم وعمران هو عمران بن ماثان وقيل‏:‏ ابن أشيم وليس بعمران أبي موسى لأن بينهما ألفاً وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل في ذلك الزمن وأحبارهم وملوكهم ‏{‏رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً‏}‏ أي جعلت الحمل الذي في بطني نذراً محرراً مني لك، والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمعنى محرراً أي عتيقاً خالصاً مفرغاً لعبادة الله وخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من أمور الدنيا‏.‏

قيل‏:‏ كان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة فيقوم عليها ويخدمها ولا يبرح مقيماً فيها حتى يبلغ الحلم ثم يخير فإن أحب أقام فيها، وإن أحب ذهب حيث يشاء، فإن اختار الخروج بعد أن أختار الإقامة في الكنيسة لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من أنبياء بني إسرائيل ومن علمائهم إلا ومن أولاده محرر لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك على ما ذكره أصحاب السير والأخبار أن زكريا وعمران تزوجا أختين فكانت إيشاع بنت فاقوذا وهي أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت فاقوذا أخت إيشاع عند عمران وهي أم مريم، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وكبرت وكانوا أهل بيت صالحين وهم من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة إذ بصرت بطائر يطعم فرخاً فتحركت نفسها بذلك للولد، فدعت الله أن يهب لها ولداً وقالت‏:‏ اللّهم لك علي إن رزقتني ولداً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمه فلما حملت بمريم حررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها‏:‏ ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى فلا تصلح لذلك فوقعاً جميعاً في هم شديد من أجل ذلك‏.‏ فمات عمران قبل أن تضع حنة حملها ثم قال تعالى حاكياً عنها ‏{‏فتقبل مني‏}‏ يعني فتقبل نذري، والتقبل أخذ الشيء على الرضا وأصله من المقابلة لأنه يقابل بالجزاء وهذا سؤال من لا يريد بما فعله إلاّ الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في دعائه وعبادته ‏{‏إنك أنت السميع‏}‏ يعني لتضرعي ودعائي ‏{‏العليم‏}‏ يعني بنيتي وما في ضميري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما وضعتها‏}‏ أي ولدت حملها وإنما قال‏:‏ وضعتها لأنه كان في علم الله أنها جارية وكانت حنة ترجو أن يكون غلاماً ‏{‏قالت‏}‏ يعني حنة ‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏}‏ تريد بذلك اعتذار إلى الله من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار لا على سبيل الإعلام، لأن الله تعالى عالم بما في بطنها قبل أن تضعه ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏ قرئ بجزم التاء إخباراً عن الله تعالى والمعنى أنه تعالى قال‏:‏ والله أعلم بالشيء الذي وضعت‏.‏ وقرئ وضعت برفع التاء وهو من كلام أم مريم على تقدير أنها لما قالت رب‏:‏ إني وضعتها أنثى خافت أن تكون أخبرت الله بذلك فأزالت هذه الشبهة بقولها والله أعلم بما وضعت ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ يعني في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل الذكر على الأنثى لأن الذكر يصلح للخدمة للكنيسة ولا تصلح الأنثى لذلك لضعفها، وما يحصل لها من الحيض لأنها عورة ولا يجوز لها الحضور مع الرجال‏.‏ وقيل‏:‏ في معنى الآية‏:‏ إن المراد منها هو تفضيل هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت‏:‏ كان الذكر مطلوبي لخدمة المسجد وهذه الأنثى هي موهوبة لله تعالى، وليس الذكر التي طلبت كالأنثى التي هي موهبة لله تعالى وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏ يعني العابدة والخادمة وهو بلغتهم أرادت بهذه التسمية أن يفضلها الله على إناث الدنيا ‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها‏}‏ أي أمنعها وأجيرها بك وذريتها ‏{‏من الشيطان الرجيم‏}‏ يعني اللعين الطريد وذلك أن حنة أم مريم لما فاتها ما كانت تطلب من أن تكون ولدها ذكراً، فإذا هي أنثى تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها ويعصمها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات العابدات‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من بني آدم من مولود إلاّ نخسه الشيطان حتى يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلاّ مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏ وللبخاري عنه قال‏:‏ كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏}‏ يعني أن الله تعالى تقبل مريم من حنة مكان الذكر المحرر بمعنى قبل ورضي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأصل في العربية تقبلها بتقبل ولكن قبول محمول على قبلها قبولاً كما يقال‏:‏ قبلت الشيء قبولاً إذا رضيته‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ ليس في المصادر فعول بفتح الفاء إلاّ هذا ولم أسمع فيه الضم‏.‏ قيل معنى التقبل والقبول واحد وهما سواء وهو أن يرى الشيء ويأخذه‏.‏ وقيل معنى التكفل في التربية والقيام بشأنها، وإنما قال بقبول للجمع بني الأمرين يعني التقبل الذي بمعنى التكفل والقبول الذي بمعنى الرضا ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ معناه وأنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً قال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏}‏ أي سلك بها طريق السعداء‏:‏ ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ‏{‏وكفلها زكريا‏}‏ قال أهل الأخبار‏:‏ لما ولدت حنة مريم أخذتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهو يؤمئذ يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، وقالت‏:‏ دونكم النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم قال زكريا‏:‏ أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالت له الأحبار لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نفترع عليها فتكون عند من خرج سهمه بها، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جار قيل‏:‏ هو الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها من غيره وكان على كل قلم مكتوب اسم واحد منهم وقيل بل كانوا يكتبون التوراة فالقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ووقف وانحدرت أقلامهم ثم رسبت في النهر‏.‏ وقيل جري قلم زكريا مصعداً إلى أعلى وجرت أقلامهم مع جري الماء إلى أسفل فسهمهم زكريا وقرعهم، وكان زكريا رأس الأحبار ونبهم فذلك قوله تعالى‏:‏ وكفلها زكريا قرئ بتشديد الفاء ومعناه وضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة‏.‏ وقرئ بتخفيف الفاء ومعناه ضمها زكريا إلى نفسه بالقرعة وقام بأمرها وهو زكريا بن أذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها المراضع وقيل‏:‏ ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بني لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطه ولا يرقى إليه إلاّ بسلم ولا يصعد إليها غيره‏.‏ وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏}‏ يعني الغرفة والمحراب اشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد وقيل‏:‏ المحراب ما يرقى إليه بدرج‏.‏

وقيل كان زكريا يغلق عليها سبعة ابواب فإذا دخل عليها المحراب ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ يعني فاكهة في غير وقتها فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ‏{‏قال‏}‏ يعني زكريا ‏{‏يا مريم أنى لك هذا‏}‏ أي من أين لك هذه الفاكهة ‏{‏قالت‏}‏ يعني مريم مجيبة لزكريا ‏{‏هو من عند الله‏}‏ يعني من الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثدياً بل كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول زكريا‏:‏ يا مريم أنى لك هذا فتقول هو من عند الله تكلمت وهو صغيرة في المهد كما تكلم ولدها عيسى عليه السلام وهو صغير في المهد‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها وكفالتها فخرج على بني إسرائيل فقال‏:‏ يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل بنت عمران فايكم يكفلها بعدي‏:‏ فقالوا‏:‏ والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بداً فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم لرجل نجار يقال له يوسف بن يعقوب وكان وكان ابن عم لمريم فحلمها فعرفت مريم في وجهه شدة ذلك عليه‏.‏ فقالت‏:‏ يا يوسف أحسن بالله الظّن فإن الله سيرزقنا، فصار يوسف يرزق لمكانها منه فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها إذا أدخله عليها في المحراب أنماه الله وزاده فيدخل زكريا عليها فيقول‏:‏ يا مريم أنى لك هذا فتقول‏:‏ هو من عند الله ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم أو ابتداء كلام من الله عز وجل ومعناه أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير لكثرته أو من غير سبب، وفي هذه الآية دليل على جواز كرامات الأولياء وظهور خوارق العادات على أيديهم قال أهل الأخبار‏:‏ فلما رأى زكريا ذلك قال‏:‏ إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادر أن يصلح زوجي ويهب لي ولداً من غير حينه مع الكبر وطمع في الولد‏.‏ وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ وأيس من الولد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هنالك دعا زكريا ربه‏}‏ يعني أنه عليه السلام دخل محرابه وأغلق الأبواب وسأل ربه الولد ‏{‏قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏ يعني أنه قال‏:‏ يا رب أعطني من عندك ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً والذرية تطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هنا الواحد وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرية ‏{‏إنك سميع الدعاء‏}‏ أي سامعه ومجيبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏ يعني جبريل عليه السلام، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً لشأنه ولأنه رئيس الملائكة، وقل أن يبعث إلاّ ومعه جمع من الملائكة فجري ذلك على مجرى العادة ‏{‏وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏ أي في المسجد وذلك أن زكريا عليه السلام كان الخبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح لهم الباب فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في محرابه عند المذبح والناس ينتظرون أن يأذن في الدخول إذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع زكريا منه فناداه جبريل عليه السلام يا زكريا ‏{‏إن الله يبشرك بيحيى‏}‏ أي بولد اسمه يحيى قال ابن عباس‏:‏ سمي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقيل‏:‏ لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهم بمعصية قط ‏{‏مصدقاً بكلمة من الله‏}‏ يعني عيسى ابن مريم وإنما سمي عيسى عليه السلام كلمة لأن الله تعالى قال له‏:‏ كن فكان من غير أب دلالة على كمال القدرة فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان‏.‏ وقيل سمي كلمة لأن عيس عليه السلام كان يرشد الخلق إلى الحقائق والأسرار ويهتدي به كما يهتدي بكلام الله تعالى فسمي كلمة بهذا الاعتبار‏.‏ وقيل سمي كلمة لأن الله تعالى بشر به مريم على لسان جبريل عليه السلام‏:‏ وقيل لأن الله أخبر الأنبياء الذين قبله في كتبه المنزّلة عليهم أنه يخلق نبياً من غير واسطة أب، فلما جاء قيل‏:‏ هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد أنه يخلقه كذلك‏.‏ وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر وكانا ابني خالة وقتل يحيى قيل أن يرفع عيسى عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ إن أم يحيى لقيت أم عيسى وهما حاملتان فقالت أم يحيى لأم عيسى‏:‏ يا مريم أشعرت أني حامل فقالت مريم‏:‏ وأنا أيضاً حامل فقالت أم يحيى‏:‏ يا مريم إني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله‏:‏ مصدقاً بكلمة من الله يعني أن يحيى آمن بعيسى وصدق به ‏{‏وسيداً‏}‏ من ساد يسود‏.‏ والسيد هو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله‏.‏ وكان يحيى عليه السلام سيد المؤمنين ورئيسهم في الدين والعلم والحلم‏.‏ وقيل‏:‏ السيد هو الحسن الخلق وقيل‏:‏ هو الذي يطيع ربه وقيل‏:‏ هو الفقيه العالم وقيل‏:‏ سيداً في العلم والعبادة والورع وقال السيد هو الحليم الذي لا يغضبه شيء وقيل‏:‏ السيد هو الذي يفوق في جميع خصال الخير‏.‏ وقيل‏:‏ هو السخي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سيدكم يا بني سلمة‏؟‏ قالوا‏:‏ جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوأ من البخل لكن سيدهم عمرو بن الجموح»

‏{‏وحصوراً‏}‏ قال ابن عباس وغيره من المفسرين‏:‏ الحصور الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن فعلى هذا هو فعول بمعنى فاعل يعني أنه حصر نفسه عن الشهوات وأصله من الحصر وهو الحبس‏:‏ وقيل‏:‏ هو العنين وقيل هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ كان له مثل هدبه الثوب وقد تزوج مع ذلك ليغض بصره وفيه قول آخر‏:‏ وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز، وأيضاً فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة، فحمل الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه ‏{‏ونبياً من الصالحين‏}‏ يعني أنه من أولاد الأنبياء الصالحين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ يعني زكريا ‏{‏رب‏}‏ أي يا رب قيل خطاب مع جبريل لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوهم الملائكة فعلى هذا القول يكون الرب هنا بمعنى السيد والمربي أي يا سيدي، وقيل‏:‏ إنه خطاب مع الله تعالى فيكون الرب بمعنى المالك، وذلك أن الملائكة لما بشروه بالولد تعجب ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى فقال رب ‏{‏أنى يكون لي غلام‏}‏ يعني من أين يكون وكيف يكون لي غلام ‏{‏وقد بلغني الكبر‏}‏ قيل‏:‏ هو من المقلوب ومعناه وقد بلغت الكبر وشخت‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وقد نالني الكبر وأدركني الضعف‏.‏ فإن قلت كيف أنكر زكريا الولد مع تبشير الملائكة إياه به وما معنى هذه المراجعة، ولم تعجب من ذلك بعد ذلك وعد الله إياه به أكان شاكاً في وعد الله أو قدرته‏؟‏ قلت‏:‏ لم يشك زكريا عليه السلام في وعد الله وقدرته إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام والاستعلام والمعنى من أي جهه يكون لي الولد أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ورد شبابي علي‏؟‏ أو يكون ونحن على حالنا من الكبر والضعف‏؟‏ فأجابه بقوله ‏{‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ وقال عكرمة والسدي‏:‏ لما سمع زكريا نداء الملائكة جاءه الشيطان وقال‏:‏ يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله تعالى، وإنما هو من الشيطان، ولو كان من الله تعالى لأوحاه إليك كما يوحي إليك من سائر الأمور‏:‏ فقال ذلك زكريا دفعاً للوسوسة واعتراض على الجواب بأنه لا يجوز أن يشتبه على الأنبياء كلام الملائكة بكلام الشيطان، إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق بأخبارهم عن الوحي السماوي، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لما دلت الدلائل على صدق الأنبياء فيم يخبرون به عن الله تعالى بواسطة الملك، فلا مدخل للشيطان فيه وذلك فيما يتعلق بالدين والشرائع، فأما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فقد يحتمل فيه حصول الوسوسة فسأل زكريا ذلك لنزول هذه الوسوسة من خاطره‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كان زكريا يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن تسع وتسعين سنة وقال ابن عباس في رواية الضحاك‏:‏ كان ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأتي عاقر‏}‏ أي عقيم لا تلد ‏{‏قال كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ يعني أنه تعالى قادر على هبة الولد على الكبر يفعل ما يشاء لا يعجزه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ يعني زكريا يا ‏{‏رب اجعل لي آية‏}‏ أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة والشكر لك ‏{‏قال آيتك‏}‏ أي علامتك على الذي طلبت معرفة علمه ‏{‏أن لا تكلم الناس‏}‏ أي لا تقدر على تكليم الناس ‏{‏ثلاثة أيام‏}‏ أي مدة ثلاثة أيام بلياليها‏.‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع إبقائه على قدرة التسبيح والذكر ولذلك قال في آخر الآية ‏{‏واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار‏}‏ يعني في أيام منعك من تكليم الناس وهذه من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لأن قدرته على التسبيح والذكر مع عجزه عن تكليم الناس بأمور الدنيا‏.‏ وذلك مع صحة الجسم وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات، وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في هذه الأيام لعبادة الله تعالى وذكره ولا يشغل لسانه بشيء آخر توقيراً منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة وشكراً لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله، وأن يكون ذلك دليلاً على وجود الحمل ليتم سروره بذلك وقال قتادة‏:‏ إنما أمسك لسانه عن الكلام عقوبة لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ببشارة الولد فلم يقدر على الكلام ‏{‏ثلاثة أيام إلاّ رمزاً‏}‏ يعني الإشارة والإشارة قد تكون باليد وبالعين وبالإيمان بالرأس وكانت إشارته بالأصبع المسبحة‏.‏ وقيل‏:‏ الرمز قد يكون باللسان من غير تبين كلام وهو الصوت الخفي شبه الهمس وقيل‏:‏ أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا والقول الأول أصح لموافقة أهل اللغة عليه ‏{‏واذكر ربك كثيراً‏}‏ وذلك لما منعه الله من الكلام في تلك المدة أمره بالذكر فقال‏:‏ واذكر ربك كثيراً فإنك لا تمنع من ذلك ولا يحال بينك وبينه ‏{‏وسبح‏}‏ أي وعظم ربك ونزهه عن النقائص وقيل‏:‏ وصل لربك وسميت الصلاة تسبيحاً لأن فيها تنزيهاً للرب سبحانه وتعالى ‏{‏بالعشي والإبكار‏}‏ فأما العشي فهو ما بين زوال الشمس إلى غروبها، ومنه سميت صلاتاً الظهر والعصر صلاتي العشي والإبكار هو ما بين طلوع الفجر إلى الضحى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قالت الملائكة‏}‏ يعني جبريل عليه السلام ‏{‏يا مريم إن الله اصطفاك‏}‏ أي واختارك ‏{‏وطهرك‏}‏ يعني من مسيس الرجال‏.‏ وقيل‏:‏ الحيض والنفاس‏.‏ وكانت مريم لا تحيض وقيل‏:‏ من الذنوب ‏{‏واصطفاك‏}‏ أي واختارك ‏{‏على نساء العالمين‏}‏ أي على عالمي زمانها وقيل‏:‏ على جميع نساء العالمين‏.‏ فإن قلت هل فرق بين الاصطفاء الأول والثاني‏؟‏ قلت‏:‏ ذكر العلماء في معناهما وجوهاً يتحصل منها الفرق فقيل في معنى الاصطفاء الأول إن الله تعالى اختار مريم وقبلها منذورة محررة ولم تحرر قبلها أنثى ولم يجعل ذلك لغيرها من النساء وأن الله بعث إليها رزقها من عنده وكفلها زكريا ومعنى الإصفطاء الثاني أن الله تعالى وهب لها عيسى من غير أب وأسمعها كلام الملائكة ولم يحصل ذلك لغيرها من النساء ‏(‏ق‏)‏ عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» قال أبو كريب‏:‏ وأشار وكيع إلى السماء والأرض قيل‏:‏ أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في قوله خير نسائها ومعناه إنهما خير كل النساء بين السماء والأرض قال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ والأظهر أن معناه أن كل واحد مهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» قال العلماء معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق وثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه من غير ثريد وفضل عائشة على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره‏.‏ وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا مريم اقنتي لربك‏}‏ أي قالت الملائكة لها شفاهاً أطيعي ربك وقيل‏:‏ معناه أطيلي القيام في الصلاة لربك‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ لما قالت الملائكة لها ذلك قامت حتى تورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً وحكي عن مجاهد نحوه ‏{‏واسجدي واركعي مع الراكعين‏}‏ إنما قدم السجود على الركوع لأن الواو لا تقتضي الترتيب إنما هي للجمع كأنه قيل لها‏:‏ افعلي الركوع والسجود وقيل‏:‏ إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أمرها أمراً عاماً وحضها على فعل الخير فكأنه قال‏:‏ استعملي السجود في حال والركوع في حال ولم يرد تقديم السجود على الركوع بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين‏.‏ وإنما قال‏:‏ اركعي مع الراكعين ولم يقل‏:‏ مع الراكعات لأن لفظ الراكعين أعم فيدخل فيه الرجال والنساء، والصلاة مع الرجال أفضل وأتم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كفعل الراكعين وقيل‏:‏ المراد به الصلاة في جماعة أي صلى مع المصلين في جماعة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب‏}‏ يقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم بذلك الذي ذكرت لك من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام من أخبار الغيب ‏{‏نوحيه إليك‏}‏ أي نلقيه إليك يا محمد لأنه لا يمكنك أن تعلم أخبار الأمم الماضين إلاّ بوحي منا إليك وإنما قال نوحيه لأنه رد الضمير إليك إلى ذلك فلذلك يذكر اللفظ ‏{‏وما كنت‏}‏ يعني يا محمد ‏{‏لديهم‏}‏ هنالك عندهم ‏{‏إذ يلقون أقلامهم‏}‏ يعني التي كانوا يكتبون بها في الماء لأجل الاقتراع ‏{‏أيهم يكفل مريم‏}‏ يعني يربيها ويقوم بمصالحها قيل سبب منازعتهم في كفالة مريم حتى اقترعوا على ذلك أنها كانت بنت عمران وكان رئيسهم وكبيرهم فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها وقيل‏:‏ لأن مريم حررت لعباده الله وخدمة المسجد وكان أبوها قد مات فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها ‏{‏وما كنت لديهم إذ يختصمون‏}‏ يعني في كفالتها وتربتيها قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه‏}‏ معناه وما كنت لديهم يا محمد إذ يختصمون وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة يعني جبريل عليه السلام‏:‏ يا مريم إن الله يبشرك والبشارة إخبار المرء بما يسره من خير بكلمة منه يعني برسالة من الله وخير من عنده فهو كقول القائل ألقى إليّ فلان كلمة سرني بها وأخبرني خيراً فرحت به‏.‏ ومعنى الاية إذ قالت الملائكة لمريم‏:‏ يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل وذلك الولد ‏{‏اسمه المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ وقال قتادة في قوله تعالى ‏{‏بكلمة منه‏}‏ هو قوله تعالى‏:‏ كن فسماه الله كلمة لأنه كان عن الكلمة التي هي كن كما يقال لما قدر الله من شيء هذا قدر الله وقضاء الله يعني أن هذا الأمر عن قدره وقضائه حدث‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الكلمة هي عيسى عليه السلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد عن الكلمة التي هي كن‏.‏ فإن قلت إن كل مخلوق إنما يوجد بواسطة الكلمة التي هي كن فلم خص عيسى عليه السلام بهذا الاسم وسماه كلمة دون غيره‏؟‏ قلت‏:‏ إن كل مخلوق وإن وجد حدوثه بواسطة الكلمة إلاّ أن هذا السبب ما هو المتعارف، ولما كان حدوث عيسى عليه السلام بمجرد الكلمة من غير واسطة أخرى فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أتم وأكمل وبهذا التأويل حسن أن يسمى عيسى عليه السلام نفس الكلمة لأنه حدث عنها، فإن قلت الضمير في قوله اسم عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير‏؟‏ قلت‏:‏ لأن المسمى بها مذكر فلهذا ذكر الضمير‏.‏ فإن قلت لم قال اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة الاسم منها واحد وهو عيسى، وأما المسيح فلقب وابن مريم صفة‏.‏ قلت‏:‏ الضمير في قوله اسمه يرجع إلى عيسى وللمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قال الذي يعرف به ويتميز عن سواه هو مجموع واسمه بالعبرانية مشيحا فغيرته العرب وأصل عيسى أيشوع كما قالوا موسى وأصله موشى أو ميشى وقال الأكثرون‏:‏ إنه اسم مشتق ثم ذكروا فيه وجوهاً قال ابن عباس‏:‏ سمي عيسى مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلاّ برأ منها وقيل لأنه مسح بالبركة وقيل‏:‏ لأنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل‏:‏ إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن‏.‏ وقيل‏:‏ لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم بمكان فكأنه يمسح الأرض أي يقطعها مساحة فعلى هذا القول تكون الميم زائدة وقيل سمي مسيحاً لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له وسمي الدجال لأنه ممسوح إحدى العينين وقيل‏:‏ المسيح هو الصديق وبه سمي عيسى عليه السلام وقد يكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال فعلى هذا تكون هذه الكلمة من الأضداد‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجيهاً‏}‏ أي شريفاً رفيعاً ذا جاه وقدر ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ أما وجاهته في الدنيا فبسبب النبوة وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وأما وجاهته في الآخرة فبسبب علو مرتبته عند الله وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن المقربين‏}‏ يعني عند الله يوم القيامة لأن لأهل الجنة منازل ودرجات ومنازل الأنبياء ودرجاتهم أعلى من سواهم وقيل‏:‏ فيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏يكلم الناس في المهد‏}‏ يعني ويكلم الناس صغيراً وهو في المهد وذلك قبل أوان الكلام ووقته والكلام الذي تكلم به هو ما ذكره الله عنه في سورة مريم وهو قوله‏:‏ ‏{‏إني عبد الله آتاني الكتاب‏}‏ الآية‏.‏ وتكلم ببراءة أمه مما رماها به أهل الفرية من القذف‏.‏ ويحكى أن مريم قالت كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح وهو في بطني وأنا أسمع ولما تكلم ببراءة أمه سكت بعد ذلك فلم يتكلم إلاّ في الوقت الذي يتكلم فيه الصغير قال ابن عباس‏:‏ تكلم عيسى ساعة ثم سكت ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ‏{‏وكهلاً‏}‏ يعني يكلم الناس في حال الكهولة والكهل في اللغة هو الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه والكهل عند العرب الذي جاوز الثلاثين وقيل‏:‏ هو الذي وخطه الشيب، وهو السن الذي يستحكم فيه العقل وتتنبأ فيه الأنبياء‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله تعالى وقال وهب بن منبه‏:‏ جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله فمعنى الآية أنه يكلم الناس وهو في المهد ببراءة أمه وهي معجزة عظيمة، ويكلم الناس في حال الكهولة بالدعوة والرسالة وقيل‏:‏ فيه بشارة لمريم أخبرها بأنه يبقى حتى يكتهل وقيل‏:‏ فيه أخبار بأنه يتغير من حال ولو كان إلهاً كما زعمت النصارى لم يدخل عليه التغيير ففيه رد على النصارى الذين يدعون فيه الألوهية‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ وكهلاً يعني ويكلم الناس كهلاً بعد نزوله من السماء وفي هذه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض ويقتل الدجال‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الكهل الحكيم والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجوده الرأي والتجربة ‏{‏ومن الصالحين‏}‏ يعني أنه من العباد الصالحين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء وإنما ختم أوصاف عيسى عليه السلام بكونه من الصالحين بعد ما وصفه بالأوصاف العظيمة‏.‏ لأن الصلاح من أعظم المراتب واشرف المقامات لأنه لا يسمى المرء صالحاً حتى يكون مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أقواله وأفعاله‏.‏ فلما وصفه الله تعالى بكونه وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين وأنه يكلم الناس في المهد وكهلاً أردفه بقوله ومن الصالحين ليكمل له أعلى الدرجات وأشرف المقامات‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏ يعني مريم ‏{‏رب‏}‏ يعني يا سيدي تقوله لجبريل لما بشرها بالود وقيل تقوله لله عز وجل‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي ولداً‏}‏ أي من أين يكون لي ولد ‏{‏ولم يمسسني بشر‏}‏ أو لم يصبني رجل وانما قالت ذلك تعجباً لا شكاً في قدرة الله تعالى إذ لم تكن العادة جرت أن يولد ولد من غير أب ‏{‏قال كذلك الله يخلق ما يشاء‏}‏ يعني هكذا يخلق الله منك ولداً من غير أن يمسك بشر فيجعله آية للناس وعبرة فإنه يخلق ما يشاء ويصنع ما يريد وهو قوله ‏{‏إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون‏}‏ يعني كما يريد ‏{‏ويعلمه الكتاب‏}‏ يعني الكتابة والخط باليد ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني العلم والسنة وأحكام الشرائع ‏{‏والتوراة‏}‏ يعني التي أنزلت على موسى ‏{‏والإنجيل‏}‏ يعني الذي أنزل عليه وهذا إخبار من الله تعالى لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة وعلو المنزلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏ورسولاً إلى بني إسرائيل‏}‏ أي ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى ابن مريم عليه السلام فلما بعث إليهم قال ‏{‏أني قد جئتكم بآية من ربكم‏}‏ يعني علامة من ربكم على صدق قولي وإنما قال بآية وقد جاء بآيات كثيرة لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقة في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى لبني إسرائيل قالوا‏:‏ ما هذه الآية‏؟‏ قال ‏{‏أني أخلق‏}‏ أي أصور وأقدر ‏{‏لكم من الطين كهيئة الطير‏}‏ والهيئة الصورة المهيأة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته ‏{‏فأنفخ فيه‏}‏ أي في الطين المهيأ المصور ‏{‏فيكون طيراً‏}‏ قرئ بلفظ الجمع لأن الطير اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع‏.‏ وقرئ فيكون طائراً على التوحيد على معنى يكون ما أنفخ فيه طائراً أو ما أخلقه يكون طائراً وقيل إنه لم يخلق غير الخفاش وهو الذي يطير في الليل، وإنما خص الخفاش لأنه من أكمل الطير خلقاً وذلك لأنه يطير بلا ريش وله أسنان ويقال‏:‏ إن الأنثى منه لها ثدي وتحيض ذكروا أن عيسى عليه السلام لما ادّعى النبوة وأظهر لهم المعجزات أخذوا يتعنتون عليه فطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً فأخذ طيناً وصوره كهيئة الخفاش، ثم نفخ فيه فإذا هو طير يطير بين السماء والأرض قال وهب‏:‏ كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عنهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، ليعلم أن الكمال لله تعالى‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ معناه بتكوين الله وتخليقه والمعنى إني أعمل هذا التصوير أنا، فأما خلق الحياة فيه فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزة على يد عيسى عليه السلام ‏{‏وأبرئ الأكمه والأبرص‏}‏ أي وأشفي الأكمه والأبرص وأصحهما، واختلفوا في الأكمه فقال ابن عباس‏:‏ هو الذي ولد أعمى وقيل‏:‏ هو الأعمى وإن كان أبصر وقيل‏:‏ هو الأعشى وهو الذي يبصر بالليل، والأبرص هو الذي به وضح وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك إلاّ أنه ليس في علم الطب إبراء الأكمه والأبرص فكان ذلك معجزة له ودليلاً على صدقه‏.‏ وقال وهب‏:‏ ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان برسالته ‏{‏وأحيي الموتى بإذن الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قد أحيا أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح وكلهم بقي وولد له إلاّ سام بن نوح فأما عازر فكان صديقاً لعيسى عليه السلام فأرسلت إليه أخت عازر إن أخاك عازر يموت وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام فأتاه عيسى وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته‏:‏ انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت بهم إلى قبره فدعا الله عيسى فقام عازر حياً بإذن الله تعالى فخرج من قبره وعاش وولد له‏.‏

وأما ابن العجوز فإنه مر به وهو ميت على عيسى عليه السلام يحمل على السرير فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وأتى أهله وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها يأخذ العشور من الناس وماتت بالأمس فدعا الله عيسى فأحياها بدعوته فعاشت وولد لها، وأما سام بن نوح فإن عيسى جاء إلى قبره ودعا الله باسمه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال‏:‏ قد قامت الساعة فقال عيسى عليه السلام‏:‏ لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له‏:‏ مت فقال‏:‏ بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت مرة أخرى فدعا الله عيسى ففعل ‏{‏وأنبئكم‏}‏ يعني وأخبركم ‏{‏بما تأكلون‏}‏ أي مما لم أعاينه ‏{‏وما تدخرون في بيوتكم‏}‏ أي وما ترفعونه فتخبؤونه في بيوتكم لتأكلوه فيما بعد ذلك، قل‏:‏ كان عيسى عليه السلام يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكله اليوم وبما يدخره للعشاء‏.‏ وقيل كان في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام‏:‏ انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا وقد رفعوا لك كذا فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا‏؟‏ فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا‏:‏ لا تقعدوا مع ذلك الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا‏:‏ ليسوا هنا فقال‏:‏ وما في البيت‏؟‏ قالوا خنازير فقال كذلك يكونون‏.‏ ففتحوا عليهم الباب فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل وظهر فهموا به فخافت عليه أمه فحملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنما كان هذا في نزول المائدة وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا فيه من طعام الجنة وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا الغد فخانوا وادخروا، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما أدخروا منها فمسخهم الله خنازير وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى عليه السلام ومعجزة عظيمة له، وهي إخباره عن المغيبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات من إبراء الأكمه والأبرص وأحياء الموتى بإذن الله تعالى وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه ذلك وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر عليه إلاّ الأنبياء عليهم السلام، فإن قلت قد يخبر المنجم والكاهن عن مثل ذلك فما الفرق‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ إن المنجم والكاهن لا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في أخباره عليها، أما المنجم فإنه يستعين على ذلك بواسطة معرفة الكواكب وامتزاجاتها أو بواسطة حساب الرمل أو نحو ذلك وقد يخطئ في كثير مما يخبر به، وأما الكاهن فإنه يستعين برائد من الجن وقد يخطئ أيضاً في كثير مما يخبر به وأما أخبار الأنبياء عليهم السلام عن المغيبات فليس إلاّ بالوحي السماوي وهو من الله تعالى وليس في ذلك باستعانة بواسطة حساب ولا غيره فحصل الفرق ‏{‏إن في ذلك‏}‏ يعني الذي تقدم ذكره من خلق الطير من الطين بإذن الله وإبراء والأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات ‏{‏لآية لكم‏}‏ أي لعبرة ودلالة على صدق أني رسول من الله إليكم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ يعني مصدقين بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏ومصدقاً‏}‏ قيل‏:‏ إنه عطف على قوله ورسولاً وقيل إنه عطف على أني قد ‏{‏جئتكم بآية من ربكم‏}‏ والمعنى وجئتكم مصدقاً ‏{‏لما بين يدي من التوراة‏}‏ وذلك لأن الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضهم بعضاً فكل واحد منهم يصدق الذي قبله ويصدق بما أنزل الله من الكتب والشرائع والأحكام فلهذا قال عيسى عليه السلام مصدقاً لما بين يدي من التوراة ‏{‏ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏ قال وهب بن منبه‏:‏ أن عيسى كان على شريعة موسى عليهما السلام وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس وقال لبني إسرائيل‏:‏ إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلاّ لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار وذلك أن الله تعالى كان قد حرم على اليهود بعض الأشياء عقوبة لهم على بعض ما صدر منهم من الخيانات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ فبقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود إلى أن جاء عيسى عليه السلام فرفع عنهم تلك التشديدات التي كانت عليهم وقال قتادة‏:‏ كان الذي جاء به عيسى الين من الذي جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب والشحوم وأشياء من الطير والحيتان زاد بعضهم فجاءهم عيسى بالتخفيف وأحلها لهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ورفع السبت ووضع لأحد وكان ذلك كله بأمر الله فكان ذلك ناسخاً لتلك الأحكام والشرائع والناسخ والمنسوخ حق وصدق ‏{‏وجئتكم بآية من ربكم‏}‏ أي بحجة واضحة شاهدة على صحة رسالتي ثم خوفهم بقوله ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ يعني يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه ‏{‏وأطيعون‏}‏ يعني فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله وما أدعوكم إليه هو قولي ‏{‏إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏}‏ لأن جميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد ولم يختلفوا في الله تعالى وفي هذه الآية حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم من سائر النصارى بإخبار الله عن عيسى عليه السلام أنه كان بريئاً مما نسبه إليه النصارى وأنه كان عبدالله وخصه بنبوته ورسالته ثم ختم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ يعني التوحيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر‏}‏ أي وجد وعرف وقيل‏:‏ رأى والإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة والمعنى أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك عيسى منهم وعرف إصرارهم عليه وعزمهم على قتله‏.‏

ذكر سبب القصة‏:‏

قال أهل الأخبار والسير‏:‏ لما بعث الله عيسى إلى بني إسرائيل وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما وكان لتلك القرية ملك جبار معتد فجاء ذلك الرجل في بعض الأيام وهو مهموم حزين فدخل منزله عند امرأته فقالت مريم‏:‏ ما شأن زوجك أراه كئيباً حزيناً فقالت‏:‏ لا تسأليني فقالت مريم‏:‏ أخبريني لعل الله أن يفرج كربته قالت المرأة‏:‏ إن لنا ملكاً جباراً وقد جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه فيه هو وجنوده ويسقيهم الخمر وأن لم يفعل ذلك عاقبة واليوم نوبتنا وليس عندنا سعة لذلك فقالت لها قولي له‏:‏ لا يهتم لذلك فأنا آمر ابني أن يدعو له فيكفي ذلك ثم قالت مريم لعيسى في ذلك فقال عيسى‏:‏ إن فعلت ذلك وقع شر فقالت مريم‏:‏ لا نبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا فقال عيسى‏:‏ قولي له إذا قرب ذلك الوقت فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عيسى عليه السلام فتحول ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابي خمراً لم تر الناس مثله، فلما جاء الملك وأكل من ذلك الطعام وشرب من ذلك الخمر قال من أين لك هذا الخمر‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ هو من أرض كذا فقال الملك‏:‏ إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه فقال‏:‏ هي من أرض أخرى فلما رآه الملك اختلط شدد عليه فقال الملك‏:‏ إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه فقال‏:‏ هي من أرض أخرى فلما رآه الملك اختلط شدد عليه فقال الرجل‏:‏ أنا أخبرك أن عندي غلاماً لا يسأل الله شيئاً إلاّ اعطاه إياه، وانه دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه في ملكه وقد مات قبل ذلك بأيام وكان يحبه حباً شديداً فقال الملك‏:‏ إن رجلاً دعا الله تعالى حتى صار الماء خمراً بدعوته ليستجيبن له في إحياء بني فطلب عيسى وكلمه في ذلك فقال له عيسى لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر فقال الملك‏:‏ لا أبالي أليس أراه فقال‏:‏ عيسى‏:‏ إن أنا أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء‏.‏ قال‏:‏ نعم فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكة الرجل فقد عاش فبادروا إلى السلاح وقالوا‏:‏ قد أكلنا هذا الملك حتى إذا دنا أجله يريد أن يستخلف علينا ابنه ليأكلنا كما أكلنا أبوه فقاتلوه وظهر أثر عيسى فقصدوا قتله وكفروا به وقيل‏:‏ إن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم فأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عز وجل عنه بقوله ‏{‏قال‏}‏ يعني عيسى عليه السلام ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ أي مع الله وقيل‏:‏ معناه إلى أن أبين أمر الله وأظهر دينه وقيل‏:‏ إلى بمعنى في أي ذات الله وسبيله وقيل‏:‏ إلى في موضعها والمعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله لي ‏{‏قال الحواريون نحن أنصار الله‏}‏ وذلك أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الله تعالى وتمردوا عليه وكفروا به خرج يسيح في الأرض فمر بجماعة يصطادون السمك، وكانوا اثنى عشر ورئيسهم شمعون ويعقوب فقال عيسى عليه السلام‏:‏ ما تصنعون‏؟‏ قالوا‏:‏ نصيد السمك قال‏:‏ أفلا تمشون حتى نصيد الناس قالوا‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال أنا عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله فسألوه آية تدلهم على صدقه وكان شمعون قد رمي بشبكته في الماء فدعا الله عيسى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق من كثرته فاستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين من السمك فعند ذلك آمنوا به وانطلقوا معه واختلف في الحواريون فقيل‏:‏ كانوا يصطادون السمك فلما آمنوا بعيسى صاروا يصطادون الناس ويهدونهم إلى الدين، سموا حواريين لبياض ثيابهم يقال‏:‏ حورت الشيء بمعنى بيضته‏:‏ وقيل‏:‏ كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها‏.‏

وقيل‏:‏ إن مريم سلمت عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر من سلمته إليه الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال لعيسى‏:‏ إنك قد تعلمت هذه الصنعة وأنا خارج إلى السفر ولا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد علمت كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فأريد أن تفرغ منها وقت وقدومي‏.‏ وخرج المعلم إلى سفره فطبخ عيسى حباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال‏؟‏ كوني بإذن الله على ما أريد منك ثم قدم الحواري والثياب كلها في الحب فقال لعيسى‏:‏ ما فعلت‏؟‏ قال قد فرغت منها قال وأين هي‏؟‏ قال في الحب قال كلها‏:‏ قال‏:‏ نعم قال لقد أفسدت علي الثياب قال عيسى‏:‏ لا ولكن قم فانظر وقام عيسى وأخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر وثوباً أسود حتى أخرجها كلها على الألوان التي يريد الحواري فجعل الحواري يتعجب من ذلك وعلم أن ذلك من الله تعالى فقال للناس‏:‏ تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه وهم الحواريون‏.‏

وقيل‏:‏ سموا حواريين لصفاء قلوبهم ولما ظهر عليهم من أثر العبادة ونورها وقيل‏:‏ الحواريون الأصفياء وكانوا أصفياء عيسى وخاصته وقيل‏:‏ الحواريون هم الخلفاء وقيل‏:‏ هم الوزراء وكانوا خلفاء عيسى ووزراؤه وقيل‏:‏ الحواريون هم الأنصار والحواري الناصر والحواري الرجل الذي يستعان به ‏(‏ق‏)‏ عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حوارياً وحواربي الزبير قال الحواريون‏:‏ نحن أنصار الله يعني أنصار دين الله ورسوله وأعوانه ‏{‏آمنا بالله‏}‏ أي صدقنا بأن الله ربنا ورب كل شيء ‏{‏واشهد‏}‏ يعني أنت يا عيسى ‏{‏بأنا مسلمون‏}‏ قيل‏:‏ معناه واشهد بأنا منفادون لما تريد من نصرك والذب عنك ومستسلمون لأمر الله عز وجل وقيل‏:‏ هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين عيسى وكل الأنبياء قبله لا اليهودية والنصرانية‏.‏